فلسطين بعد غزة- سلطة متجددة أم بداية مرحلة جديدة؟

المؤلف: طارق حمود10.23.2025
فلسطين بعد غزة- سلطة متجددة أم بداية مرحلة جديدة؟

تمثل الحرب الدائرة رحاها في قطاع غزة تحولًا جذريًا غير مسبوق في مسيرة النضال الفلسطيني منذ نكسة عام 1967، تلك الهزيمة التي فقد فيها الفلسطينيون ما تبقى من أراضيهم. أسفرت حرب النكسة عن تداعيات سياسية مباشرة، أبرزها الاعتراف الفعلي بالعجز العربي الرسمي، الأمر الذي أضفى على الكفاح المسلح الفلسطيني شرعية نضالية شكلت منعطفًا محوريًا في تاريخه.

لحظة فارقة

يشكل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وما أعقبه من عدوان شامل على الإنسان والمكان والعمران في غزة، نقطة تحول حاسمة أخرى، إلا أنها، على النقيض من النكسة، تكشف عن العجز الفلسطيني الرسمي بشكل خاص. فإذا أمكن اعتبار عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول انبثاقًا جماعيًا للرغبة الدفينة لدى الشعب الفلسطيني في كسر القيود المفروضة وتغيير الوضع القائم الذي طال أمده، والذي رسخ الإذلال وفتح الأبواب أمام التطبيع في كنف التخاذل العربي على حساب القضية الفلسطينية الجوهرية، فإن الواقع الفلسطيني الرسمي المتمثل في السلطة القائمة في الضفة الغربية يشكل جزءًا لا يتجزأ من هذا الواقع المرير، الذي يتوق الفلسطينيون إلى تغييره.

يثور بإلحاح سؤال حول مستقبل السلطة والإدارة في قطاع غزة ما بعد الحرب. ولكن هذا السؤال كان مطروحًا بالفعل في الضفة الغربية حتى قبل اندلاع الحرب، وإن كان ذلك بوتيرة هادئة وخافتة. فخلال السنوات التي تلت الجولة المتعثرة الأخيرة من المفاوضات الشكلية التي رعاها وزير الخارجية الأميركي آنذاك، جون كيري، في الفترة 2013-2014، بدأ يتجسد التجاهل المتزايد للكيان السياسي في الضفة الغربية برمته. وفي غضون ذلك، كانت سلطة حماس في غزة، على الرغم من الحصار والمقاطعة الدولية والإقليمية، تعيد ترسيخ وجودها من خلال تفعيل دورها ونفوذها بعد سلسلة الاعتداءات المتتالية على القطاع، وفي إطار تشكيلات سياسية متنوعة على الصعيدين الداخلي والإقليمي. وبين وطأة حصار سلطة غزة وتهميش سلطة الضفة، ترسخت قناعات إقليمية مدعومة أميركيًا بإمكانية تجاوز القضية الفلسطينية بأسرها والولوج في مسارات تطبيع عربية إسرائيلية منفصلة.

لقد كان مسار التطبيع بمثابة اعتراف عربي بتراجع مكانة القضية الفلسطينية الرسمية التي تمثلها السلطة الفلسطينية، والتي تأسست في الأصل كمشروع تطبيع فلسطيني – إسرائيلي، ثم تحولت بمرور الوقت إلى أداة للإخضاع والاستغلال خدمة لتوفير احتلال بأقل التكاليف في تاريخ المنطقة. وتسرد اتفاقيات التطبيع العربية الأخيرة جوانب متعددة من مظاهر العجز، لكنها تبرز كانعكاس واضح للعجز الرسمي الفلسطيني على وجه الخصوص. فتجاهل التطبيع العربي للقضية الفلسطينية وضع السلطة في مأزق معقد. مأزق مع توجه النظام العربي الرسمي الذي أعلنت السلطة أنها جزء منه منذ اتفاق أوسلو. ومأزق آخر مع الطرف الإسرائيلي الذي لم يمنحها الحد الأدنى من الحقوق مقابل تطبيعها معه أولًا. وهو تناقض نابع بالأساس من طبيعة السلطة الخاضعة للاحتلال.

أما على الصعيد الإسرائيلي، ومع أفول نجم اليسار وصعود اليمين المتطرف للسيطرة على المجتمع والدولة، فقد ترسخت قناعات مفادها أن السلطة الفلسطينية مجرد مشروع وظيفي في أحسن الأحوال، وفي أسوئها كيان يقترب من نهايته. إذ لم يعد مشروع الإدارة الذاتية يتماشى مع الرؤية الاستيطانية لليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يتبنى فكرة الحكم المباشر لتنفيذ عمليات الاقتلاع والضم للضفة الغربية، وهذا هو صلب البيان السياسي والأيديولوجي لمختلف تيارات اليمين الإسرائيلي التي تحتكر الساحة السياسية في "إسرائيل". بمعنى آخر، لا يوجد مكان للسلطة الفلسطينية في ظل إجماع إسرائيلي على رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة.

سلطة متجددة

ومن هنا يمكن فهم الموقف المتصلب الذي يتخذه نتنياهو برفض أي دور للسلطة الفلسطينية في إدارة قطاع غزة مستقبلًا، على الرغم من مستوى التنسيق الأمني الوثيق الذي أبدته السلطة مع الاحتلال في الضفة، والذي وفر على قوات الأمن والجيش الإسرائيلي تكاليف باهظة جدًا ماديًا وبشريًا. فالمؤسسة الإسرائيلية التي تسعى جاهدة لإيجاد حلول لمرحلة ما بعد الحرب في غزة، تنحصر إجاباتها في مشاريع اليمين المتطرف لمرحلة ما بعد السلطة الفلسطينية.

قد يختلف الأمر ظاهريًا على الصعيد الأميركي. إذ تطالب واشنطن بدور للسلطة الفلسطينية في غزة، وتقترحها كحل لإدارة المرحلة اللاحقة للحرب في ظل مشروع يهدف إلى إعادة توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة. لكنها في الوقت ذاته تتحدث عن "سلطة متجددة"، أي سلطة بآليات عمل تختلف عما هو موجود حاليًا في الضفة الغربية. وبعبارة أخرى، فإن الولايات المتحدة الأميركية أيضًا تفكر في مرحلة ما بعد السلطة الحالية.

لا يختلف الأمر كثيرًا في الأوساط الفكرية الأوروبية والبريطانية، إذ يسود اعتقاد راسخ بأن الشكل الحالي للسلطة في الضفة الغربية يمثل جزءًا من المشكلة. فمن ناحية، لم تستطع هذه السلطة الاستمرار في مسار ديمقراطي من خلال تعزيز إجراء انتخابات دورية. وهو تراجع عن الديمقراطية دعمته هذه الدول في البداية عندما أسفرت الديمقراطية عن صعود تيار غير مرغوب فيه في انتخابات عام 2006.

إلا أن تجربة الانتخابات توقفت تمامًا منذ ذلك الحين، حتى مع تطور المواقف الدولية نحو فكرة وجود حماس كشريك بشكل ما في السلطة. وهو ما تجسد في دعم الاتحاد الأوروبي لانتخابات عام 2021 قبل أن يلغيها محمود عباس لأسبابه الخاصة، في ظل انقسام فتحاوي عميق هدد احتكار عباس للقرار داخل فتح والمنظمة. ويمكن لأي مسؤول أوروبي أن يتصور الواقع فيما لو جرت الانتخابات في عام 2021، فهل كانت الظروف المحلية الفلسطينية ستشهد الجمود الذي أدى إلى تفجير السابع من أكتوبر/تشرين الأول والحرب الحالية؟

تزامن كل هذا، وعبر في جانب منه، عن تفشي مستويات الفساد السياسي داخل السلطة التي تُضخ إليها مئات الملايين من الدولارات سنويًا من أموال دافعي الضرائب الأوروبيين والأميركيين لكي تستمر. وقد ثارت في الآونة الأخيرة نقاشات غربية، رسمية وشبه رسمية، حول ضرورة التفكير في سلطة ما بعد محمود عباس، وطُرحت أفكار من قبيل استقالة الرجل وإفساح المجال لجيل جديد من القيادة. وليس بالضرورة أن يكون الجيل الجديد أفضل حالًا على الصعيد الوطني. ولكن المطلوب هو شكل جديد من الإدارة والسلطات. وعلى الرغم من عدم توفر إجابات قاطعة حول طبيعة هذه الإدارات حتى الآن، إلا أن التفكير يجري بجدية في مرحلة ما بعد السلطة الحالية.

إن تجاوز السلطة لم يقتصر على البعد الإسرائيلي والعربي والدولي، بل امتد ليشمل البعد الفلسطيني أيضًا. فهناك قناعات راسخة بعدم جدوى النمط القائم حاليًا، وانفصاله التام عن الهموم العامة للفلسطينيين، سواء في جانبها التحرري والوطني، أو في جوانبها المحلية والمعيشية اليومية. لقد فشلت المنظومة السياسية الرسمية في توحيد الضفة وغزة، على الرغم من مرور 17 عامًا على الانقسام المرير. ولم تنجح في تقديم نموذج أفضل للحياة في الضفة الغربية في ظل التوسع الاستيطاني المتزايد واعتداءات المستوطنين وانتهاكات الاحتلال اليومية بحق الفلسطينيين.

غياب الحراك السياسي

تتجلى مظاهر حالة ما بعد السلطة فلسطينيًا في صورتين بارزتين. الأولى هي الحرب الراهنة التي تدمر جزءًا من الشعب الفلسطيني على نحو غير مسبوق في تاريخ القضية. فقد شهدت هذه الحرب انخراطًا دبلوماسيًا وسياسيًا عالميًا وإقليميًا واسع النطاق، في المقابل غاب الحراك السياسي الرسمي الفلسطيني بشكل لافت، لدرجة أن أحدًا قد يعجز عن ذكر اسم وزير الخارجية الفلسطيني الحالي. كما شهدت الحرب الحالية أبرز حالات القطيعة بين حماس والسلطة التي يرأسها محمود عباس.

فمنذ بداية الحرب لم يتم أي اتصال من أي نوع بين الطرفين. وهو انقطاع ناتج بالأساس عن قناعة راسخة لدى حماس بأن هذا الاتصال عديم الجدوى، خاصة بعد التجارب السابقة في جولات العدوان على غزة، وأن السلطة الحالية قد انتهت صلاحيتها، ولا جدوى من التعاون معها في ظل عزلتها الشعبية والإقليمية والدولية. أي أن حماس نفسها، ومعها فصائل المقاومة في غزة، تخوض هذه الحرب على أساس واقع ما بعد السلطة.

وفي المظهر الآخر، تتوالى المبادرات الشعبية والنخبوية التي تهدف إلى تشكيل إطار وطني جامع يعيد إحياء المشروع الوطني الفلسطيني. ففي عام 2017 انطلق المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج، وتلته مبادرات مماثلة في الداخل والخارج، وكان هدفها الأساس هو تنظيم الشعب الفلسطيني المعزول عن سلطته وقيادته. وفي خضم الحرب الحالية، انطلقت مبادرة المشروع الوطني الفلسطيني في ضوء النقاش العام الذي أثارته الحرب وما صاحبها من قصور قيادي فلسطيني عن استيعاب التضحيات والبطولات.

إن صعود المبادرات الوطنية غير الرسمية منذ ما بعد أوسلو يعكس موقفًا ومعارضة سياسية في المراحل اللاحقة للاتفاق. إلا أن مثل هذه المبادرات الآن، وتَكثُّفها في الوعي الفلسطيني خلال السنوات الأخيرة، يعكس فكرة متقدمة تتجاوز مجرد الموقف والمعارضة السياسية. إنها تجسد اكتمال القناعة الشعبية الفلسطينية في مرحلة ما بعد السلطة، والمدفوعة بقناعة راسخة بعدم جدوى الوضع الراهن.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة